أخبرنا القهوجي بأن اليوم هو أخر أيام المقهي حيث أن هناك مشاكل شديدة بين أصحاب البيت والمستأجر العجوز وأن هذه المشاكل قد أدت إلي إنهاء التعاقد بينهم ، وقد كان للخبر وقع مختلف علي رواد المقهي وأهالي المنطقة فبعضهم كان مؤيداً لفكرة إغلاقها والبعض لم يبالي بالموضوع ومنهم من أصابه الخبر كالصاعقة وكنت أنا وأصدقائي من الفريق الأخير .
وبعد هبوط النبأ علينا كان أول ما أتفقنا عليه جميعاً هو السهر علي القهوة لأقصي وقت ممكن قبل إغلاقها كنوع من أنواع الوداع والوفاء بالجميل ، وبدأ الحديث عن النتائج المترتبة علي تلك المشكلة حيث أننا نتجمع في هذا المكان منذ أكثر من خمس سنوات ، وطرح البعض أسئلة عن إمكانية وجود مكان بديل وله نفس المميزات فتلك القهوة رغم صغر حجمها إلا أنها تعتبر في منتصف المنطقة التي يقطن بها معظمنا ومهما تحركنا خلال اليوم يعلم الجميع أننا سوف نلتقي مساء في نفس المكان ، وتطرق بنا الحديث عن بعض الذكريات - بتلقائية شديدة - فلقد عاصرت معنا أخبار سعيدة وأخري حزينة ودار عليها العديد من الحوارات المجدية والغير مجدية ، ولم ينس صديقي الذي يسكن بجوار القهوة مباشرة أن يبدي أسفة لأن القهوجي بعد إنتهاء ورديته في المقهي لن يذهب إليه لينبهه صباحاً بموعد العمل .
بالصدفة لمحت عم حسين صاحب المقهي العجوز يجلس وحيداً أمام المكتب بجوار " النصبة " - نراه جالساً هكذا منذ بدايات ظهورنا في المنطقة - فذهبت إليه أنا وأحد الأصدقاء فاستقبلنا بوجهه البشوش مرحباً كالعادة وبعد السؤال عن أسباب ما سمعناه فأبلغنا أن البيت كان خالياً لا يسكنه أحد منذ وفاة صاحبه ، والأن عاد ولده من الخارج بعد غياب دام أكثر من خمسة عشر عاماً ويريد البيت والقهوة .. وأخذ يحدثنا عن مدي إرتباطه بالمكان وعن عدد المحاولات التي قام بها لكي يقنع صاحب المنزل ببقائه ، وفي لحظة واحدة إرتسم علي وجهه الحزن الموجود في العالم كله وهو يشير إلي جهاز راديو قديم بجواره ويخبرنا عن إصرار بعض أصدقائه علي المجيء دائماً يوم الخميس من كل إسبوع لكي يستمعوا إلي تسجيلات حفلات السيدة أم كلثوم التي يذيعها الراديو حيث يزعمون أن " الخروشة " الحميمة المصاحبة للصوت إلي جانب صحبتهم ترجعهم إلي أيام فاتت وتعيد عليهم ذكرياتهم الخاصة ، أسمع كل هذا من العجوز وأكتفي بما فيه من هموم وأتركه لها وأنصرف إلي أصدقائي .وبمجرد عودتي وجدت أحدهم يخبرني أن هناك مقهي قريب قد يصلح كبديل ، وأقترح صديق أن نقوم بزيارته وما بين مؤيد ومعارض إتفقنا أن نكمل سهرتنا هنا ونذهب في اليوم التالي لنري هل يستطيع هذا المكان الجديد أن يحتوينا بنفس القدر الذي نشعر به في مقهي عم حسين ، إنتهت السهرة سريعاً وإنصرف كل منا إلي حاله وإتفقنا علي تجمعنا غداً في ذلك المكان الجديد وفي اليوم التالي وصلت إلي المقهي البديل قبل وصول أي من الأصدقاء وجلست في أحد الأركان البعيدة عن مدخل القهوة أنتظرهم محاولاً تدريب عيني علي مفردات المكان ولكني - وللأسف الشديد - لم أنجح في ذلك منذ تلك اللحظة .. وحتي الأن .