أخرج من الشقة التي أقطن بها مرتدياً قميصي الكتان المفضل وبنطلون واسع إلي حد ما وأنا لا أعلم وجهتي إلي أين ، أحرص علي إستخدام السلم إلي أسفل حيث أن شقتي تقع في الطابق الثاني ، في أخر درجات السلم أكتشف أنني قد نسيت إرتداء ساعتي فتصيبني الحيرة بين العودة لإحضارها أم لا .. فينتصر الكسل فالساعة قد تجاوزت منتصف الليل بقليل وكل الساعات بعد ذلك سواء .. أكمل طريقي عبر الردهة المكشوفة إلي الباب المعندي المشغول بعناية فائقة أتأمل التفاصيل الصغير بين ثنايا الحديد الخشن المدهون باللونين الأسود والأصفر وأسال نفسي لماذا كل هذه الضجة في صنع الباب فهو يؤدي الي ردهة مكشوفة من السهل علي أي شخص الدخول إليها فقط عليه أن يتسلق الباب ولن يستغرق الأمر ثوان ويكون في الداخل يمرح كيف يشاء في أرجاء المبني ولكني لا أتوقف كثيراً عند هذا فمنذ حوالي خمس سنوات - وهي فترة إنتقالي إلي هذا المنزل - ولم يحدث أن حاول أحد أن يتسلل إلي الداخل ، كما أن هناك صوت ينطلق من داخلي يذكرني بأن تلك ليست مشكلتي فأنا إلي الأن لم أستقر علي مكان أذهب إلية .
يقع المنزل في شارع صغير جدا ً يأخذ شكل نصف الدائرة لأن ما يفصلة عن الشارع الكبير ميدان صغير مليء بالأشجار التي تكون في كثير من الأحيان غير منظمة ومُهملة ، بمجرد خروجي من خلف هذا الميدان وقبل وصولي إلي الطريق كنت قد حددت وجهتي بشكل مبدئي .. سوف أخذ جولة حول المنزل من بداية الشارع الكبير إلي نهايته ثم الدوران من أخره والعودة من الشارع الرئيسي المواز له لعل وعسي أن تظهر دروب جديدة أو بشر جدد قادرين علي إنتشالي من حالة الغرق النفسي - إن جاز التعبير - التي أمر بها تلك الحالة التي أشعر معها وكأن هناك من يدفع برأسي داخل دلو مليء بالمياه ويضغط عليها ليمنعني من التنفس فأشعر بطعم المياه يتدفق داخل فمي إلي جانب فقدان السيطرة علي أطرافي بشكل كبير فيداي تفعل ماتشاء كما تتحكم قدماي في طريقي ولكن أسعي بكل جهدي إلي المحافظة علي عينياي وعقلي بكامل قواهما لكي يساعداني في محاولاتي الدائمة واللحوحة لكي أزاول مهنتي التي أجيدها تماماً وهي التمعن في وجوه وملامح البشر ومحاولة النفاذ إلي داخلهم مع انني لا أعرفهم ولا يعرفوني .
أمر بجوار قطعة أرض مزروعة ومحاطة بسور صغير يقيم فيها بشكل شبة دائم مجموعة من تجار المخدرات لا يتعدي عمر أكبرهم الخامسة والعشرين كما أخبرني سائق التاكسي من قبل عندما حذرني من التعامل معهم ( بإعتبار أن بيع وشراء المخدرات أصبح شيء طبيعي ) لأنهم شباب خطرين يسمونهم الغرباوية لأنهم أغراب عن المنطقة ... أجدهم منتشرين في أنحاء المنطقة وتتوافد عليهم مجموعات من الناس مختلفي الأعمار لكي يقضو حاجتهم في ثوان بسيطة وينتهي الأمر .
أتابعهم بنظري وأنا في طريقي للخروج إلي الشارع الرئيسي ، وبمجرد خروجي أجدهم ينتظرون .... مجموعة من العائلات نساء ورجال في أعمار مختلفة ولكن الشيء الملفت للنظر هو عدد الأطفال الكبير الذي لا تستطيع معه أن تفرق بينم وبين الحقائب التي تلتف حولهم حركتهم سريعة ومرحة يتابعهم باقي العائلة مع عدد من التعليمات التي يتخللها بعض الصياح يمينا ويساراً لينبه بعدم عبور الطريق مما يجعل هذا الصياح يشكل الموسيقي التصويرية للمشهد ... أنتظر قليلاً بجوارهم فتأتي حافلة سياحية لتقلهم يجمعون حقائبهم وأطفالهم ويركبونها ويرحلون .
أتحرك أنا بدوري وأكمل طريقي وبعد أقل من دقيقتين يشد اذني صوت مرتفع نسبياً فأنظر تجاه الصوت فأجدها فتاة صغيرة في حوالي الثامنة من عمرها تنظر من شباك بيتها وتمسك مسدس صغير وتوجهه ناحيتي وتطلق أصوات من فمها في محاولة منها لمحاكاة صوت الرصاصة ، أبتسم لها ولكن يروادني هاجس يجعلني أسرع في خطواتي وأنا أتحسس مناطق متفرقة من جسدي وأنظر ليدي وكأني سوف أجدها ملوثة بالدماء فيغلبني الضحك وأنطلق مسرعاً قبل أن تراني .
لم تمر دقائق كثيرة علي عبوري بيت القاتلة الصغيرة إلا وكان رنين هاتفي المحمول يقطع افكاري .. اخرجة بملل فأجد الشاشة تضيء باسم صديق مقرب لدي ، أجيبة وبعد الكثير من الاسئلة المعروفة عن الصحة وخلافة والتي تمهد الطريق لفتح موضوع معين مما يجعلني أكرهها كثيراً حيث أنها لا تضيف جديد ونظل نكررها بإستمرار .. يخبرني عن رحلة بصحبة بعض الأصدقاء متجهة إلي شرم الشيخ ويلح بإصرار علي ضرورة وجودي معهم ، ولكن هناك أسباب عديدة تجعل من سفر مثل هذا شيء مستحيل مع انني في أمس الحاجة له ولكن ما باليد حيلة فأنا أعلم صعوبة الأمر، فأحاول التملص ويضايقني اصرارة علي الذهاب معهم ويعدد لي من مزايا الرحلة وكأني لا أعرفها ولا يتركني أنهي الأتصال إلا بوعد مني بالتفكير في الأمر وأنه سوف يتصل بي مرة أخري لعلي اغير من قراري.
أنهكني التفكير وقررت تغيير مساري وأتخذت قرار بالعودة للمنزل فوراً وأنا أشعر بالاعياء يتملك مني نتيجة للتخبط الذي أشعر به ، كما سيطر علي إحساس غامض صعقت عندما وجدت نفسي متورطاً فيه والغريب أنه غير قابل للتصنيف هل هو حزن أم حسد .. لا أعرف ... حيرة ؟ غالباً .. ولكني لا أثق في ذلك .... ومامعني الثقة أيضاً ... شفقة قد يستحقها البعض والرثاء للبعض الأخر ، أبتلعت كل هذا وجمعت أكبر قدر من الأفكار والأسئلة التي تمكنت من حملها في نفسي ورحلت عن الطريق القاسي صاعداً إلي منزلي متوجهاً بأقصي سرعة إلي غرفتي لعلي أجد فيها ما يساعدني علي التخلص من معاناتي أو علي الأقل مشاركتي في جزء منها .